لعقود من الزمن أرسل السوفييت غواصاتهم النووية بمهام سرية في عمق مياه محيط الاطلسي .. و لكن تلك المهام لم تكن سرية بالنسبة للأمريكيين .. فقد كانت كل تحركات غواصات السوفييت مكشوفة في المحيط و في كثير من الاحيان قبل دخول المحيط .. بفضل نظام المراقبة الصوتي SOSUS الذي مكنّهم من كشف أصوات تلك الغواصات من مسافات بعيدة جداً من خلال قناة الصوت العميق SOFAR في مياه المحيط ..
(قناة الصوت العميق SOFAR هي طبقة من مياه المحيط في عمق 500-1000 متر تسمح للموجات الصوتية ذات التردد المنخفض بالسفر لآلاف الكيلومترات ضمنها بأقل قدر من التبدد .. تتعرفون على قناة SOFAR بشكل مفصل من هنا .. و يفضل ان تتعرفوا عليها بدايةً قبل قراءة هذا الموضوع ليسهل فهم آلية عمل نظام SOSUS) ..
نشأة نظام SOSUS :
في السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الثانية صنعت ألمانيا احدث غواصاتها و أخطرها الغواصة Type XXI .. (التي تعتبر سابقة لزمنها من حيث التقنيات و التصميم .. و اول غواصة حقيقية مصممة للعمل معظم الوقت تحت المياه .. بينما معظم الغواصات في زمنها كانت اقرب لزوارق غواصة تقضي معظم الوقت خارج المياه) .. و لحسن حظ السوفييت فقد كانت معظم منشآت تصنيع تلك الغواصة في مناطق سيطرتهم في بولندا و ألمانيا .. (كانت تصنعها المانيا بمعدلات انتاج عالية بشكل أجزاء في عدة منشآت .. و لكن بسبب سرعة الانتاج و التعجل في نهاية الحرب فقد كانت ذات جودة سيئة و كانت تحتاج لاصلاحات كثيرة قبل الخروج من خط التجميع النهائي .. و قد صنعت ألمانيا منها 118 غواصة 4 منها فقط كانت جاهزة لعمليات قتالية نهاية الحرب) ..
حصلت كل من امريكا و بريطانيا و فرنسا على بعض من غواصات Type XXI الالمانية في نهاية الحرب .. و دخلت غواصتين منها في الخدمة مع البحرية الامريكية في الاطلسي لبضع سنوات .. و شاركت غواصة منها حصلت عليها فرنسا في عداون 1956 على مصر .. و بريطانيا استخدمت الغواصة التي حصلت عليها للاختبارات .. و حصل الاتحاد السوفييتي على 4 غواصات Type XXI و ادخلوها الخدمة مع بحريتهم .. (اعتقد الامريكيين ان السوفييت حصلوا على 15 غواصة) ..
بعد معرفة الامريكيين بقدرات غواصة Type XXI خشيوا من مواجهة خطر غواصات سوفييتي قادم في الاطلسي .. خاصة مع حصول السوفييت على البنية التحتية الالمانية لصناعة تلك الغواصات .. و عام 1946 قدرت المخابرات الامريكية ان السوفييت بحلول عام 1950 سيملكون 300 غواصة مبنية على اساس الغواصة الالمانية ..
(و بالفعل صنع السوفييت لاحقاً غواصات Whiskey و Zulu و Romeo المبنية على اساس غواصة Type XXI الالمانية .. و لم يكن السوفييت وحدهم الذين صنعوا على اساسها .. حتى الامريكيين صنعوا غواصات Gato و Balao و Tench-class على اساس الغواصة الالمانية) ..
و كإستجابة لخطر الغواصات السوفييتية المتوقع .. أنشأت الولايات المتحدة لجنة عسكرية علمية لمواجهة الخطر تحت سطح البحر .. و قد عقدت تلك اللجنة العديد من الاجتماعات السرية .. و اقترح في احد تلك الاجتماعات فريدريك هانت الذي كان رئيس مختبر الصوت تحت الماء في جامعة هارفرد ان يتم استخدام قناة SOFAR لاكتشاف الغواصات من مئات الكيلومترات من خلال الضجيج الذي تولده تحت الماء ..
و كان ذلك الاقتراح هو البداية لتطوير نظام المراقبة الصوتي Sound Surveillance System SOSUS .. و الذي يعتبر نظام رصد سلبي او نظام سونار سلبي يعتمد على رصد الصوت الصادر من الاهداف تحت الماء في كشفها .. و كما جرت العادة في الحرب الباردة .. فقد كان الغطاء العلمي البحثي هو الستار لهذا المشروع العسكري السري جداً .. و قد اطلق عليه مشروع قيصر Project Caesar للبحث الأوقيانوغرافي ..
بدأ نظام SOSUS كنظام مراقبة ساحلي عام 1950 .. و عام 1951 تم تركيب اول مصفوفة هيدروفونات (سماعات مائية) من نظام SOSUS في جزيرة Eleuthera في الباهاما .. و بعد نجاح تجربته فيها تم تعميمه عام 1952 ليتم تركيبه ليغطي الساحل الشرقي الامريكي المطل على الاطلسي .. و تم نشره في الساحل الغربي الامريكي و هاواي في المحيط الهادئ عام 1954 .. و في جزيرة Argentia في كندا عام 1959 ..
مكونات نظام SOSUS :
- الهيدروفونات (السماعات المائية) التي تم تركيبها على كابلات تحت مياه المحيط .. و كانت توضع على نهايات تلك الكابلات .. (هي نفسها كابلات الهاتف و تستخدم لتغذية الهيدروفونات بالطاقة و لنقل البيانات من الهيدروفونات الى محطات التحليل على الساحل) .. و كان يركب على كل كابل 40 هيدروفون متعدد الاتجاه .. يفصل بينها مسافات متساوية .. و توضع تلك الهيدروفونات على المنحدرات القارية و الجبال البحرية في عمق قناة SOFAR (500-1000 متر) .. و كان طول تلك الكابلات في البداية 280 كم تقريباً .. (و تم استخدام اطوال اكبر تصل الى احواض المحيط مع تطور انواع الكابلات المستخدمة) ..
- على الساحل .. من نقطة انطلاق الكابلات .. تم إنشاء محطات مراقبة تسمى المرافق البحرية NAVFAC .. و تحوي وحدات تحليل كهروميكانيكي LOw Frequency Analysis and Ranging LOFAR التي يتم فيها استقبال الصوت الوارد عبر الهيدروفونات و معالجته بفلترة الترددات المنخفضة منه عن ضجيج المحيط البحري الطبيعي و تضخيم تلك الترددات ليمكن تمييزها .. لتحديد مواقع الاهداف المكتشفة مصدر تلك الترددات .. و يتم تسجيل البيانات المحللة الناتجة عن LOFAR في طابعات تحول تلك البيانات الصوتية الى بيانات مقروءة من خلال 40 وحدة LOFARgram على الاقل (حسب عدد الكابلات الصادرة من محطة NAVFAC) .. تُطبع تلك البيانات على لفافات ورق ليتم قرائتها من قبل فنيين مختصين قادرين على تمييز اشارات ضجيج الغواصات من اشارات ضجيج المحيط الطبيعي و تحديد موقع الهدف من خلال زمن وصول اشارات ضجيجه .. (و يتم الاحتفاظ بلفافات الورق كسجل يتم العودة له لاحقاً عند الحاجة) ..
(تنتج الغواصة اثناء ابحارها ضجيج صوتي بتردد منخفض صادر عن دوران محركاتها و تروسها و من دوران مروحتها الدافعة و من تدفق المياه حولها اثناء ابحارها .. و هذا هو الضجيج ذو التردد المنخفض الذي يصل الى الهيدروفونات من مئات الكيلومترات عبر قناة SOFAR و ترسله الى وحدات LOFAR عبر الكابلات البحرية بتيار جهد منخفض الى محطات NAVFAC الساحلية .. و يزيد هذا الضجيج كلما زادت سرعة الغواصة مع زيادة تدفق المياه حول جسمها و زيادة سرعة دوران المحرك و التروس و المروحة الدافعة .. و تنتج المروحة الدافعة ضجيج اعلى من باقي مصادر الضجيج في الغواصة) ..
![]() |
وحدات LOFARgram التي تسجل بيانات الهيدروفونات .. و يظهر مثال لأحد البيانات المسجلة .. و يظهر في محطة |
و في 7-1962 لأول مرة تم رصد غواصة نووية سوفيتية من نوع HEN class اثناء عبورها فجوة GIUK بين بريطانيا و آيسلندا و جرينلاند باتجاه الاطلسي ..
و بعد شهور .. خلال الازمة الكوبية في شهر 10-1962 تسللت 5 غواصات سوفيتية من شبه جزيرة كولا الى البحر الكاريبي لدعم الاسطول السوفييتي في تلك الازمة .. و لم يتم كشف تلك الغواصات من قبل محطة Argentia على الاطلسي في كندا .. هذه الحادثة دفعت الامريكيين لتبني استراتيجية الحواجز عام 1965 و التي جوهرها هو دفع أنظمة SOSUS للأمام و نشرها في الفجوات البحرية التي تعبر منها الغواصات السوفيتية من موانئها لمناطق الدوريات البحرية في المياه المفتوحة .. بحيث يتم كشفها في بدايات تحركها .. و خاصة في فجوة GIUK (بين بريطانيا و آيسلندا و جرينلاند) .. كما تم نشر النظام في آلاسكا حيث توجد احدى فجوات العبور ايضاً الى المحيط الهادئ ..
بحلول عام 1981 وصل عدد منشآت و محطات أنظمة SOSUS الى 36 موقع .. في البحار و المحيطات ..
سمح الاختيار الأمثل لمواقع الهيدروفونات في المنحدرات القارية و الجبال البحرية و على عمق قناة SOFAR بالاضافة لحساسية تلك الهيدروفونات .. سمح ذلك لنظام SOSUS بإكتشاف الاصوات التي تقل عن 1 واط على مسافات تصل إلى مئات الكيلومترات ..
في بداية الثمانينيات قُدّر أن نظام SOSUS كان يمكنه تحديد موقع غواصة نووية روسية بدقة 50 ميل او 93 كم .. و مدى كشفه في ظل ظروف جوية مواتية يتجاوز 500 ميل او اكثر من 900 كم (الظروف الجوية العاصفة تقلل من قدرات النظام بسبب ارتفاع الضجيج الطبيعي) ..
(المواقع الروسية تذكر ان دقة النظام بعد تحديثه عدة مرات كانت تحديد موقع الغواصة ضمن قطع ناقص محاوره 216 × 90 كم)
اختلفت قدرات نظام SOSUS و مدى كشفه للغواصات على مدى عمره .. مع تحديثاته التي شملت انواع كابلات جديدة و هديروفونات اكثر حساسية و و تطوير نظام التحليل LOFAR لتمييز ترددات اكثر انخفاض و التحول الى التحليل الكمبيوتري و الحفظ الرقمي للتسجيلات بدل الحفظ الورقي .. كما امكن حفظ البصمات الصوتية للغواصات تحديد نوعها و ليس فقط الكشف .. بالتزامن مع تحديث النظام كانت الغواصات ايضاً تتطور و تصبح اكثر هدوء ما قلل من قدرات النظام في الكشف ..
و كان يتم كشف الغواصات السوفييتية من مئات الكيلومترات بواسطة نظام SOSUS ..و يتم ارسال مواقع تلك الغواصات الى السفن الحربية و الغواصات و الطائرات المضادة للغواصات التابعة للبحرية الامريكية و الناتو لمتابعة الغواصات السوفييتية دون ان يعرف الاطقم و القادة كيف تم كشف موقع تلك الغواصات ..... استمر ذلك لسنوات طويلة .. حتى كشف السوفييت اسرار نظام SOSUS من خلال الجاسوس الامريكي John Walker الذي كان مطلعاً على اسرار النظام و قدم خدماته طوعاً و باعها مقابل المال .. كان ذلك في نهاية 1968 ..
عندما كشف السوفييت سر نظام SOSUS بدأوا بالعمل على تهدئة غواصاتهم .. و كان اول غواصة نووية هادئة صنعها السوفييت الغواصة Victor III عام 1978 .. و مع غواصة Akula وصل السوفييت لمرحلة معادلة الامريكية من ناحية هدوء الغواصات عام 1983 .. و كانت Akula اول غواصة تتمكن من التهرب من رصد نظام SOSUS و السونارات السلبية ..
و قام السوفييت ايضاً بعد كشف اسرار نظام SOSUS بتطوير تكتيكات للتهرب منه في مناطق انتشاره التي اصبحت معروفة لهم .. ما جعل كشف الغواصات السوفيتية صعباً بواسطة هذا النظام في نهاية الثمانينات ..
كل ذلك ... اضافة الى تفكك الاتحاد السوفييتي دفع الامريكيين الى رفع السرية عن نظام SOSUS بداية التسعينات .. و اتاحته للعلماء المدنيين لاستخدامه في بحوث المحيطات .. و اصبح نظام SOSUS جزءاً من نظام مراقبة اشمل و هو النظام المتكامل للمراقبة تحت سطح البحر IUSS Integrated Undersea Surveillance System التابع للبحرية الامريكية .. و لا تزال مصفوفات هيدروفونات نظام SOSUS تسجل البيانات و لكن لم تعد مراقبة و متابعة باستمرار كما في السابق ..
لم تقتصر فوائد نظام SOSUS على كشف الغواصات السوفييتية فقط .. بل ساهم ايضاً بعدة مجالات اخرى .. و هي :
- كشف مواقع الغواصات الامريكية التي تعرضت لحوادث غرق .. و منها حادث غرق الغواصة USS Thresher عام 1963 .. و حادث غرق الغواصة النووية USS Scorpion عام 1968 ..
- المساهمة في برنامج الصواريخ العابرة للقارات من خلال تحديد مواقع سقوط الصواريخ في المحيط الاطلسي و المحيط الهادئ اثناء تجارب الاطلاق خلال فترة تطويرها ..
- الكشف عن موقع غرق الغواصة السوفييتية К–129 التي غرقت 1968 .. و استرجاعها لاحقاً بعملية سرية لكشف اسرارها و اسرار الصواريخ التي تتسلح بها ..
- كان الاساس لبداية تشكيل مكتبة البصمات الصوتية للغواصات السوفييتية .. (لكل غواصة بصمة صوتية مختلفة من خلال الضجيج الذي تصدره من دوران محركها و تروسها و مروحتها الدافعة) ..
- كان لنظام SOSUS فضل كبير في تهدئة الغواصات النووية الامريكية .. حيث سعى مصممي الغواصات الأمريكية إلى بناء غواصات لا يمكن الكشف عنها بواسطة نظام SOSUS .. نتج عن ذلك منافسة فنية بين مسؤولي برنامج تهدئة الغواصات الامريكية و مطوري نظام SOSUS .. و كانت نتيجة تلك المنافسة تصنيع غواصات هادئة بشكل كبير مقارنة بالتصميمات السوفيتية ..
تطور الولايات المتحدة نظام رصد سلبي ثابت جديد بديل عن SOSUS .. يعتمد على انظمة
جديدة للاتصالات تحت الماء لنقل البيانات (لا يزال المشروع سري و لا يعرف
تفاصيل عنه) .. و تملك نظام رصد سلبي آخر و لكن متحرك و يعرف باسم SURTASS و
يتمتع بقدرات كشف بعيدة المدى .. و هو عامل حالياً .. (سيكون لنا موضوع مفصل
عنه لاحقاً) ..
إرسال تعليق